9 mars 2022
الثورة الجزائرية في الشعر العربي الحديث
يندفع الشعر بوصفه تعبيرا وجدانيا انفعاليا مع الأحداث المختلفة التي يصنعها الإنسان أو التي تفرض عليه، فيعبر عنها ويجسدها، ويعكس ما فيها من سلبيات وإيجابيات؛ فهو الحاضر في ميادين النزال، كما في حفلات الأعراس، وفي مجالس اللهو والترف كما في مجالس الوعظ والإرشاد، وفي الفخر بالقيم النبيلة كما في ذم الخصال القبيحة، وفي رحاب الملوك والسلاطين كما في أكواخ الفقراء والمعدمين، وما شئت من الميادين والجبهات.
والشعر بما يحمله من سحر في البيان وتناسق في النظم، وسعة في الموضوعات، وسيلة تعبيرية مهمة لتخليد الآثار وتصوير المواقف، ما يجعله مؤثرا في النفوس، ومترددا على الألسنة جيلا بعد جيل، وحقبة بعد أخرى. لهذا ارتبط بحياة الشعوب وتاريخها ومآثرها، حتى عده العرب ديوانهم الذي يفخرون به، وزادهم الذي يقابلون بها ما لغيرهم من فلسفات ومظاهر حضارة.
وإذا كان للشعر هذه الخطورة، فإن اقترانه بالأحداث العظمي يزيده قوة ومكانة في آن معا، خاصة إذا ما وجد من الشعراء من يجمع قوة البيان بقوة التفاعل مع الحدث؛ لأن أخطر ما في الشعر كونه كلاما خالدا يتردد على الألسنة كما تتردد التحية بين الناس، وكونه محط أنظار الجميع بغض النظر عن مستوياتهم ووظائفهم. وما ينقله تاريخ الأدب عن الشعر والشعراء قديما وحديثا يذهل القارئ بكل ما يحمله من متناقضات، فرب شاعر رفعته قصيدته إلى مصاف الأخيار والأبطال، ورب شاعر نزلت به القصيدة إلى قاع الضياع، وما ذاك إلا لأن الشاعر أبدع فيها فنا وجسد فيها موضوعا له من الأهمية ما ليست لغيره.
ثنائية الشعر والثورة:
والشعر بما يحمله من سحر في البيان وتناسق في النظم، وسعة في الموضوعات، وسيلة تعبيرية مهمة لتخليد الآثار وتصوير المواقف، ما يجعله مؤثرا في النفوس، ومترددا على الألسنة جيلا بعد جيل، وحقبة بعد أخرى. لهذا ارتبط بحياة الشعوب وتاريخها ومآثرها، حتى عده العرب ديوانهم الذي يفخرون به، وزادهم الذي يقابلون بها ما لغيرهم من فلسفات ومظاهر حضارة.
وإذا كان للشعر هذه الخطورة، فإن اقترانه بالأحداث العظمي يزيده قوة ومكانة في آن معا، خاصة إذا ما وجد من الشعراء من يجمع قوة البيان بقوة التفاعل مع الحدث؛ لأن أخطر ما في الشعر كونه كلاما خالدا يتردد على الألسنة كما تتردد التحية بين الناس، وكونه محط أنظار الجميع بغض النظر عن مستوياتهم ووظائفهم. وما ينقله تاريخ الأدب عن الشعر والشعراء قديما وحديثا يذهل القارئ بكل ما يحمله من متناقضات، فرب شاعر رفعته قصيدته إلى مصاف الأخيار والأبطال، ورب شاعر نزلت به القصيدة إلى قاع الضياع، وما ذاك إلا لأن الشاعر أبدع فيها فنا وجسد فيها موضوعا له من الأهمية ما ليست لغيره.
ثنائية الشعر والثورة:
وعندما نقرن الشعر بالثورة الجزائرية فنحن أمام متعتين: متعة الفن الشعري بخياله وتصويره وموسيقاه، ومتعة الموضوع بزخمه وهوله وروعته التي تركت آثارها في نفوس الجزائريين، ونفوس غيرهم من العرب والمسلمين والأجانب أيضا. ونجد أنفسنا مجبرين على استرجاع ماضينا لنقرنه بحاضرنا ونتأمل سنة الله في خلقه وكونه، فكما كان أبو تمام والمتنبي يقفان على معارك الملوك المسلمين في زمانهم وينقلونها تصويرا ومعاني وعواطف حتى خلدوها في التاريخ، فكذلك فعل مفدي زكريا وغيره مع الثورة الجزائرية. وإذا كانت معارك الماضي أياما وليالي، فإن الثورة سنوات طويلة مُرة لم ينته كابوسها إلا بعد تضحيات جسام. فلا عجب إذن أن يخصص شاعر مثل مفدي زكريا أغلب شعره لتخليد أمجاد الثورة، والفخر برجالها، حتى ظننا أن ليس لمفدي اهتمام في الدنيا سوى الجزائر.
وعلى الرغم مما تفرضه الثورات العظيمة على الشاعر من حماسة في نقل مجرياتها، فقد تعتري الشاعر أحيانا صدمة العظمة تجعله، حائرا فيتوقف عن الاندفاع والتدفق، ويمكث عن بعد يترقب ويلاحظ، دون أن يقوى على تحريك لسانه المبدع، بل دون أن تسعفه الكلمات للتعبير عما يرى ويسمع. ذلك هو حال الشعراء مع الثورة الجزائرية العظيمة التي أذهلت العالم ببطولات أبنائها، ورسمت للجزائر لوحة عز خالدة لا تؤثر عليها العوامل والمتغيرات.
لكن صمت بعض الشعراء أمام عظمة ثورتهم لم يكن من قبيل التخاذل أو الخيانة، بل العكس هو الصحيح؛ إنه صمت المعجب والمعظم للحدث، فكأن ما يحدث على أرض المعارك لا يحتاج أصلا إلى من يعبر عنه نتيجة لكونه جللا؛ مثلما حدث مع الشعراء تجاه القرآن الكريم أثناء نزوله، ففي الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات شعراء قريش تستهزئ بالرسول وقرآنه في عنجهية وتجبر وتكبر، نجد شعراء آخرين ممن صفت نفوسهم من الحقد والتحدي أخصرهم القرآن بما أتى به من بديع التصوير وجمال البيان وقوة الحجة، فكأنما يقولون لقرائهم ورواتهم: ليس بعد هذا الكلام كلام؛ ولا نريد بمثال القرآن هذا المطابقة بقدر ما نريد إثبات أن قوة الحدث موجبة أحيانا للصمت عن التعبير عنه، أو بيان أولوية السكوت على الكلام القاصر عن بيان حقيقة ما يجري، فكأن الكلمات المترجمة له أصغر من أن تتحمل ثقل المعنى، كما عبر عن ذلك سليمان العيسى (1921 - ) في قوله:
روعة الجرح فوق ما يحمل اللفـ ظ ويقوى عليه إعصار شاعر
ما عساني أقول والنــــــــــــار لم تلـ فح جبينـــي هناك والثأر دائر
فمن النوع الأول نجد الشاعر القدير المرحوم محمد العيد آل خليفة الذي " لم ينتظر ديوانه الضخم غير قصيدتين يعود تاريخهما إلى عهد الثورة، وهو الشاعر الذي كان ينفخ الثورة في الثلاثينيات بقصيدة في كل مطلع شهر"، كما سكت أحمد سحنون الذي كان يتلمس وهج الثورة بأطراف أصابعه، وسكت محمد الأخضر السائحي فلم يطالعنا بأول دواوينه إلا بعد الاستقلال، والأمر ينطبق على آخرين مثل محمد الجريدي والهادي السنوسي وعمر شكيري وغيرهم.
فلا يُعتقدن إذن أن سكوت هؤلاء عن الشعر أو عن كثيره راجع إلى جبن أو خوف من المحتل، فقد ضحى كثير منهم بحياته فداء لوطنه، مثل الأمين العمودي، وعبد الكريم العقون، والربيع بوشامة، وآخرين ذاقوا مرارة السجون الاستعمارية طويلا، كأحمد سحنون، إنما سكوتهم من قبيل الاعتراف بأن الدور لحملة راية السلاح، وعليهم أن يؤدوا الدور كما يجب.
أما النوع الثاني فيمثله عدد من الشعراء ممن ارتبطت أسماؤهم بالثورة الجزائرية، مثل الشاعر مفدي زكريا (1908 – 1977) الذي عبر عن تراجع الكلام، وضيق الشعر عن التعبير عن عظمة ما يحدث في الجزائر. غير أنه بقدر ما كان يستخف بالكلمة في مقابل الكفاح المسلح، كان يبدع لنا القصائد التي لا تقل روعتها عما يحققه المجاهدون في ساحات الوغى، فمن قصيدته " وتعطلت لغة الكلام" نقرأ:
نطق الرصاص فما يباح كــلام *** وجرى القصاص فما يتاح ملام
السيف أصدق لهـجة من أحــرف *** كتبت، فكان بيانــــــها الإبهام
إن الصحائف للصـفائح أمرها *** والحبر حرب والكــلام كـــــــلام
عز المكاتب في الحياة كتــــــائب *** زحفت كأن جنــــــــــودها الأعلام
خير المحافل في الزمان حـــجافل *** رفعت على وحداتـــــــــها الأعلام
أنا لا أغرد للنضـــــــــــــــــا *** ل ولا أغني للرجــــولـــــة
ملت مسامعنــــا وعـــــــــــا *** ف الشعر ترديد البطولة
لمن الهتاف ؟ وأمـــــــتي *** لما تزل بيـــــــــــــن الحمم
الصمت أبلغ في الوغى *** والنصر للـــــزحف الأصـم
وإذا تساءلنا عن سر هذا النزوع إلى الصمت بنوعيه لا نجد أفضل مما علله به الدكتور صالح خرفي في قوله:"وربما استمد بعض الشعراء هذا الموقف الصامد الصامت من الحقيقة التاريخية التي صدعت بها الثورة، حين قامت حدا فاصلا بين عهد اللعب وعهد الجد، وطوت في إصرار سياسة الأخذ والرد، حتى طغت على الثورة في سنيها الأولى رفض عنيد لكل تلويح بالتفاوض."الشعر العربي الحديث والثورة الجزائرية:
هزت الثورة الجزائرية وجدان الشاعر العربي منذ تفجيرها في نوفمبر1954، واستمر ذلك إلى زمن ما بعد الاستقلال، ولا نبالغ إذا قلنا إن الشعر في كل قطر عربي، من بغداد إلى مراكش قد حفل بتناول الثورة الجزائرية وكفاح هذا الشعب الكبير، وبكل الأشكال الشعرية المتاحة. وقد عبر عن ذلك شاعر الثورة الجزائرية نفسه حين اعترف بمآزرة بلاد العرب قاطبة مع كفاح هذا الشعب الأبي، فقال في إحدى قصائده:
نسبٌ بدنيا العُرب.. زكَّىغرسَه ألمٌ فأورق دوحُــــــــJJJــــه وتفرَّعَـــــا
سببٌ، بأوتار القلــــــــــــوب.. عروقُهُ إن رنّ هذا.. رنّ ذاكَ ورجَّــــــــــعَا!
إمّا تنهَّد بالجــــــــــــــــــــــــــــــزائرمُوجَع آسى «الشآمُ» جراحَه، وتوجَّـــعَا!
واهتزَّ فــــــــي أرض " الكِنانة"خافقٌ وأَقضَّ في أرض)العراق)المضجعَا!
وارتجَّ فـــــــــي الخضــراء شعبٌماجدٌ لم تُثنِه أرزاؤه أن يَفــــــــــــــــــــــــــزعَا
وهوتْ «مُراكشُ» حـــــــــــولَهوتألمّتْ «لبنانُ»، واستعدى جديسَوتُبَّعـــَا
تلك العروبةُ.. إن تَثُــــــــــرْأعصابُها وهن الزمانُ حيالَها، وتضعضـــعَا!
هذه الحقيقة يؤكدها عبد الله ركيبي من جهته، فيرى أن" ما من شاعر عربي – رغم كثرة الشعراء على الساحة العربية – إلا وذكر الأوراس في شعره سواء قليلا أو كثيرا، وربما كان ذكر الأوراس جواز مرور القصيدة إلى النشر حتى وإن لم تكن في مستوى يؤهلها لذلك."
وإذا بحثنا عن دوافع اهتمام الشعراء العرب بها وقفنا على ما يأتي:
- كونها ثورة عظيمة في زمنها ومكانها، بالنظر إلى حجم البطولات والتضحيات التي قدمها الشعب الجزائري في حرب غير متكافئة قد حظيت بالإعجاب والتقدير والتعاطف، ليس فقط لدى العرب أو المسلمين بل عند غيرهم من ذوى التوجه الإنساني العادل.
- كونها جاءت بعد ثورات تحرر متواصلة في البلاد العربية، وحروب طاحنة ضد قوى الاحتلال الغربي والصهيوني. ولعل مأساة فلسطين وعجز الأمة عن التخلص من هذا الكيان الغاصب المدعوم من القوى العظمى ومنها فرنسا كانا حاضرين في وجدان كل عربي، ، ما جعل تفجير الثورة الجزائرية أملا في استرجاع الأمة لبعض مجدها الضائع.
- تنامي الحس القومي في هذه الفترة، والشعور بوحدة المصير، الأمر الذي دفع الإنسان العربي إلى الرغبة في رؤية البلاد العربية تتحرر، استعداد لوحدة قومية مأمولة تكون خلاصا من التشرذم والتخلف والتبعية.
- إيمان الشعراء بأن للكلمة أهميتها في تحديد مصائر الشعوب، وفي دفع العمل النضالي والمسلح إلى تغيير الأوضاع السائدة.
الجوانب المتناولة في الثورة الجزائرية:
ولقد تشعبت موضوعات الثورة عند الشعراء العرب لتشمل الثورة في ذاتها كفعل مضاد للاحتلال، والإنسان الذي يصنعها والمكان الذي يشهد على عظمتها، وارتباطها بمحيطها العربي والإقليمي:
أ- الثورة بوصفها وقائع ومعارك:
يعرف الشاعر إذن أن الكلمات تقصر عن نقل الوقائع في كمال جلائها، ولكنه مع ذلك يأبى إلا أن يقول كلمته، ويحاول قدر جهده أن ينقل للقارئ صورة تهزه وتؤثر في وجدانه؛ ولقد وفرت الثورة الجزائرية للشعراء جوا ملحميا فريدا ينظمون فيها الأشعار، ويتبارون في نقل الأحاسيس قبل نقل الوقائع؛ لأنهم بعيدون عن أرض المعارك وإن كانوا يتمنون المشاركة فيها.
يقول الشاعر السوري سليمان العيسى في أحد حواراته:" عندما قامت الثورة الجزائرية ثورة التحرير الكبرى كنا نتابعها يوما بيوم ومعركة بمعركة ونعد نفسنا من الثوار.. وان لم نشترك في الثورة أو نكون في جبال الاوراس. كنا نحلم أن نكون في الجبال مع المقاتلين لكن لم يتح لنا أن نحمل السلاح فوجدنا أننا نستطيع أن نساهم في هذه الثورة بأن ننقل لعنة المنفى إلى أصلها.. الى اللغة الأم, ففكرنا قليلا ووجدنا أن أحسن خدمة يمكن تقديمها لهذه أن نطلع الإخوة العرب على ما يقوله إخواننا في الجزائر دفاعا عن الأرض والقضية والحرية."
في هذا الإطار تأتي قصيدة أحمد حجازي (1935 -)(الموت في وهران) لتصف الجموع المقدمة في إصرار على انتزاع كرامتها دون خوف أو تردد:
من أبدل المعنى، فصار المنى
أن يلتقي صريعهم بالصريع؟
ومن أضاء للعيون الردى
وأطلع الفجر قبيل العزيع؟
يرونه ودونه مقتل،
يرونه، ولا يرون الرجوع
أريد أن أعثر فيهم على
مستدبر النار، فلا أستطيع
أكاد أن أهتف في جمعهم
عودوا ! وأخشى واحدا أن يطيع
ويرفع حسن عبد الله القرشي (1934 -) آيات الإعجاب إلى الثورة التي صنعها من لا يخافون العدو ولا يهابون آلته الرهيبة، فهانت عندهم المصائب والأهوال طالما أنهم يؤمنون برسالتهم وبنصر الله لهم، فيقول:
كم رحت أهفو نحوهم في حلك الكفـــــــــــاح
لا يألمون للضنى، للــــــــــــــــــــــهول، للجراح
ويغزلون في الدجى أجنــــــــــــــــــــحة الصباح
"ذؤابة الأوراس" لا يرهـــــــــــــــــــــــــــــبهم سلاح
شراعهم يهــــــــــــــــــــــــابه " القرصان" والرياح
ثاروا فيا أرض اشرقي بالمجد، يــــــــا بطاح
وكللي هاماتهم بالغــــــــــــــــــــــــــــــــــــار يا أقاح
اعتلى الشهيد منصة التتويج بالشهادة والبطولة في شعر من يؤمنون بأن الحرية لا تعطى ولكن تؤخذ غلابا، فهو ليس ميتا عاديا تقام له المآتم وجلسات البكاء والعزاء، بل هو مسيح يتعالى إلى السماء كما صوره مفدي زكريا في قصيدته الشهيرة (الذبيح الصاعد).
يقول الشاعر السوري سليمان العيسى في تعظيم البطل الشهيد (زيغود يوسف):
''صمت على الوادي يروّع الوادي
وسحابة من لوعة وحداد
أرسى على الهضبات ريش نسورها
وتمزقت من بعد طول جلاد
هدأ الوميض.. فلا أنين شظية
يُصمي، ولا تكبيرة استشهاد''
إلى أن يقول:
''يا سفح يوسف يا خضيب كمينه
يا روعة الأجداد في الأحفاد
يا إرث موسى في النسور وعقبة
والبحر حولك زورق ابن زياّد
يا شمخة التاريخ في أوراسنا
يا نبع ملحمة بثغر الحادي
أتموت؟ تاريخ الرجولة فرية
كبرى إذن، ووضاءة الأمجاد
أتموت كل حنية بجزائري
ميلاد شعب رائع ميلادي'
ويلفت انتباه الشاعرة طريقة المحتل في تعذيب هذه البطلة، وتحاول أن تواسي البطلة بآثار ذلك التعذيب وذلك الصمود المضاد في إذكاء روح التضامن مع (جميلة) ومع كل جزائري يجابه القوة العاتية، فتقول في قصيدة( نحن وجميلة):
هم حملوها جراح السكاكين في سوء نية
ونحن نحملها-في ابتسام وحسن نية-
جراح المعاني الغلاظ الجهوله
فيا لجراح تعمق فيها نيوب فرنسا
وجرح القرابة أعمق من كل جرح وأقسى
فواخجلتا من جراح جميله!
غير أن جميلة بوحيرد خطفت الأضواء أكثر من زميلاتها لسبب وجيه هو حادثة التعذيب البشع الذي تعرضت إليه، وبخاصة في المناطق الحساسة من جسمها الأنثوي، ما دفع الشعراء العرب إلى تهويل هذا التعذيب في مقابل الفخر بالصمود الذي أبدته امرأة كان يعتقد أنها تضعف أمام المحتل، وإذا بها أفضل من كثير من الرجال قوة وشجاعة وصمودا. فلا غرو إذا أن تتحول إلى رمز أو أسطورة لا يستطيع كثير من الشعراء ذكر الجزائر دون ذكرها والتغني ببطولاتها.
فالقرشي يرسم لجميلة صورة تليق بها مناضلة أبية فيقول:
" جميلة " وأنت يا أنشودة الإبـاءْ
يا نغمة تشع بالطهر وبالصفــــاءْ
شهيدة في وطني تضحك للفداءْ
أنا هاهنا من غرفة في السجن مظلمة رهيبة
هذه السطور أخطها في صمت وحدتي الكئيبة
ما ضرني لو لم أثر، وبقيت في بيتي رهينة؟
أغفو على الريش الوثير، وأحتسي الكأس الرقيقة ؟
لا يا رفيق الدرب، لم أخلق لكي أحيا ليومي
درس الفدا أخذته عن والدي وخالي وأمي
ولقائل ما شأنها، ولكل هذاك العذاب؟
بي مثل ما بك من هوى الأوطان من حب الكرامة
إما حياة عز، أو موت به معنى السلامة.
ج- المكان بوصفه شاهدا على الثورة.
حين كتب أحمد حجازي قصيدته (أوراس)، قدم لها بقوله:" إن أوراس في نظري ليست قصيدة قديمة، لقد منحها موضوعها فرصة الميلاد كل يوم، وأن كل ما هو بطولي في القصيدة يأتيها من الثورة، وكل ما هو فج فيها مرده إلى جوانب في نفسي لم تمتد إليها نار الثورة بعد."
وتختصر الأوراس من حيث كونها منطلق الثورة الجزائرية في شعر حجازي بلدا كاملا يشتعل ثورة، بل مغربا كاملا يعيش على وقع زلزال عنيف يبغي تطهير الأرض من دنس المحتل:
مدن المغرب
ترتج على قمم الأوراس
زلزال في مدن المغرب
لم يهدأ منذ سنين مائه
لم يترك في جفن أملا في نعاس
يأتي المولود على صوت الزلزالْ
ويموت رجال
فيودعهم صوت الزلزال.
ولا يتردد الشاعر سليمان العيسى في أن يجعل من الأوراس موطنا وجامع أشلاء، بل ونسبا وأصلا، لكونها أعادت له وللعربي كثيرا من الكرامة المهدورة، والعزة المفقودة ، فيقول:
حملت أجنحة الأطفال ملء يـــــدي وجئت أبحث يا أوراس عن جسدي
تقاسمتني الرياح السود فانــــتزعي شرارتي وهبيني جمــــــــــــــــــــرة لغدي
جزائر الدم، ردي لي صدى نســـبي وعصّبي جبهــتي بالأمس لا تـزد
أنا لستُ أملك بندقيه
لكنهم لو يسمحون هنا لأسرعنا إليك
ولبعتُ أوراقى ومكتبتى وجئتُ ببندقيه
ولكنتُ جندياً لديك
أمضى أُقاتلُ فى المدينه
من أجلِ أطفالِ المدينه
ولنسمة من برشلونه
ولوجهكِ العربيِّ، يا ضوءَ الشمال...
لكنهم لو يسمحون هنا لأسرعنا إليك
ولبعتُ أوراقى ومكتبتى وجئتُ ببندقيه
ولكنتُ جندياً لديك
أمضى أُقاتلُ فى المدينه
من أجلِ أطفالِ المدينه
ولنسمة من برشلونه
ولوجهكِ العربيِّ، يا ضوءَ الشمال...
هذا مخاض الأرض لا تيأسي
بشراك يا أجداث حان النشور !
بشراك في (وهران) أصداء صور
سيزيف ألقى عنه عبء الدهور
واستقبل الشمس على (الأطلس)!
أه لوهران التي لا تثور!
خـــــاتمة:
ومهما يكن من أمر، فإن عظمة الثورة الجزائرية سواء عبر عنها الشعراء بالصمت أو بالكلام، محرك من محركات الإبداع عندهم، ومصدر مهم من مصادر الإلهام؛ وعلى الرغم من كل ما قلنا فإن الشعر الذي تناول التورة الجزائرية في الجزائر كما في العالم العربي كثير لا تحصى قصائده. فقد تعددت أفكاره من تمجيد للشهداء، ورفض لأساليب المحتل الغاصب، وحث للشعب الثائر على الصمود والمواجهة، وذم لجرائم الاستعمار ضد الإنسانية وغيرها. وبقدر ما تشرفت ثورتنا المجيدة بجهود الشعراء، فقد تشرفوا هم كذلك بها، وهذه هي النتيجة الطبيعية لتلاحم الشعر مع الأحداث الجليلة.
وما أكد أصالة وصدق العلاقة بين الشعراء العرب والثورة الجزائرية سلسلة القصائد التي واكبت حركة البناء والتعمير التي بدأتها الجزائر بعد استقلالها، والتنويه بالدور الريادي لهذا البلد الكبير في مناصرة الشعوب المحتلة خاصة الشعب الفلسطيني الجريح، ولقد كانت المناسبات الوطنية في الجزائر فرصة للتعبير عن ذلك كله، سواء حضرها هؤلاء الشعراء أم غابوا عنها.
(source : http://olomtec.blogspot.com)
Publicité
Publicité
Commentaires