ارتبطت صور الراحل د. إحسان عبّاس بذاكرتي بمناسبات ثلاث: زيارتي الأولى منزله، القريب من حديقة الصنايع في بيروت عام 1978م. كان الجو ربيعًا. وحضوره الأنيس في لجنة تحكيم جائزة القاهرة للرواية العربية عام 2002م. كان الجو خريفًا والراحل رئيسًا. وصورته في شرفة منزله في عمّان في الطور الأخير من حياته. كان الجو مختلطًا يسيطر عليه الشتاء. ثلاث مناسبات في ثلاثة أمكنة وأزمنة متداخلة، أنطقت «الفلسطيني القديم» بحركات غير متساوية. لكل طور من حياة الإنسان وجه يحتضن ما سبقه ويسخر منه.

زرته لأهديه كتابًا صغيرًا ظننت، وأنا أكتبه، أنني أنجز «سِفرًا ثمينًا»، يشرح العلاقة بين الدين والطبقات الاجتماعية، ويخلص إلى نتائج تحرّر عقل القارئ من أوهامه. أنساني الوهم أنني أقدّم كتابًا صغيرًا لعالم كبير من حبر وورق وجَلَد، كتب وترجم وحقّق عشرات المخطوطات والكتب، عَلَم في مجال التاريخ والأدب، ورئيس قسم اللغة العربية في الجامعة الأميركية، وأستاذ مرموق تطلّع إلى جيل من الباحثين على صورته، ذلك أن «صور الأمير من نباهة الذين يخلفونه» كما قال الإيطالي ميكيافيللي. وقدّم ترجمة فريدة لرواية «موبي ديك».

قال بعد ترحيب: «هذا كتاب صغير الحجم كبير الفائدة»، ابتسم بعد قراءة إهدائي وأضاف: «هل تسمح لي أن أصحّح خطأ نحويًّا وقع سهوًا في إهدائك الكريم؟». نظرت إليه بخجل، كما لو أن كتابي تضاءلت صفحاته من جديد. أشفق من تلعثمي وسارع إلى القول: «نحن على أية حال متساويان، فلسطينيان في لبنان، أحدهما من قرية في قضاء صغير، وأنا ولدت في قرية عين غزال، نحمل لقبًا أكاديميًّا، وأدركتنا معًا حرفة الكتابة».

توقف وابتسم وتابع: «لكنّ بيننا فرقًا واحدًا: أستطيع أن أصوّب خطأً نحويًّا بسبب صحبة مع اللغة العربية طويلة، تختلف عن صحبة هيغل وديكارت وماركس، الذين آثرتَ صحبتهم على صحبة سيبويه والهمذاني والجاحظ». ختم القول بابتسامة استحالت قهقهة.

كان في وجهه ألفة وافرة سيترجمها، لاحقًا، بجد أقرب إلى الهزل، وبهزل ثاقب الأحكام وبرضى، في ساعات الرضى، يطلق ضحكًا عفويًّا كأنه الصهيل. أكمل الستين من عمره، ببنية أقرب إلى السنديان، يتوّجها رأس أشقر الشعر، حافظ على مواقعه، ووجهه «أحمر» امتد في رقبة حمراء على جسم يميل إلى القصر.

سيقول د. فهمي جدعان، صاحب كتاب «أسس التقدّم في الإسلام»، في ندوة عن إحسان عباس أقامتها مؤسسة شومان في عمّان: «كنّا ندعوه أيام الصبا: الصبي الأحمر المتفوّق؛ إذ كان فريدًا في لونه بين التلاميذ».. أما تفوقه فتقاسمه مع مجايليْه: إميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا، ولد ثلاثتهم عام 1920م وانصرفوا، بأشكال مختلفة، إلى الأدب. وزعتهم نكبة 1948م على أكثر من أزمة ومنفى، وعرفوا المنفى مرتين: خسران ماضٍ أمين احتضنهم، والتوجه إلى مستقبل أثقله القلق. بقي «حبيبي» في الوطن المصادر قريبًا من «أيام العرب»، كما كان يقول، وسيتذكّر إحسان «رموز الأزمان المنقضية» في سيرته الذاتية: «غربة الراعي» 1996م، المستهلّة بشجن موجع يسائل جدوى القراءة والكتابة، ويقيم فرقًا بين المثقف المختص وبين «المثقف الفرح» المشغول بتوزيع صوره على وسائل الإعلام الجماهيرية، والرسمية.

كان الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي قضى في السجن قبل أن يصل إلى الخمسين، قد أعطى ملاحظات «كونية» عن الثقافة والمثقفين في «كرّاسات السجن»، أفرد فيها حيّزًا للمثقف الريفي الأصول.

قرأ في الأخير صفتين متلازمتين: «التجمّل الاجتماعي الذي تترافد فيه الشهرة وجاذبية اللقب والتبيّن على العامة، والجهد في تجسير المسافة بين المثقف والسلطة الحاكمة، والتعرّف على وجهها ومعاشرتهم». نأى د. إحسان عن الصفتين؛ آثر العزلة والاعتكاف، وسخر من الألقاب، ورأى في التقشّف فضيلة؟

زرته في منزله في عمّان، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بمناسبة لقاء حول: «موقع الرواية الأردنية في الرواية العربية»، أسعدني الحظ في التكلّم تحت إشرافه. أذكر من الزيارة حديثه عن «اختلاف المدن واختلافات الهواء، وأن هواء المدن من طبائع أهلها، وأن أفضل المدن ما يبعث هواؤها على الاعتكاف». وأذكر صوتًا خافتًا يعرف أنه لم يقرأ لوسيان غولدمان ولا رولان بارت وقرأ لوكاتش وباختين، وأنه حلم طويلًا بصياغة نظرية في الرواية، لولا مشاغل التراث التي وزّعته على قديم، لا يأتلف ووقائع الرواية.

جواز سفر يفتح دروب السعادة

لم يكن سعيدًا وهو طالب دراسات عليا في جامعة القاهرة، كما قال، أبكاه سقوط فلسطين، وأرهقه عسر الحال وتشتّت العائلة بلا معيل. غابت عنه رموز الأمان «فحمل علمه» وقصد جامعة الخرطوم، وعثر مصادفة على جواز سفر، يعتقد «بعض الكرام» أنه يفتح دروب السعادة ويفضي إلى الجنة. وصل إلى السودان متأبطًا أحزانه، فوضع كتابًا عن «أبي الحسن البصري»، المتصوّف الزاهد بالحياة، وآخر عن «أبي حيّان التوحيدي» الذي قال: «الغريب هو من كان غريبًا بين الغرباء». حين ألمحت إليهما مرة قال إحسان ضاحكًا: «الغرباء كالمتصوفة يعرف بعضهم بعضًا، وجدت فيهما انتسابًا وهوية، فمن قصد العلم لذاته ذهب إلى أرواح خيّرة، وبعد أن ضاعت فلسطين ضاع معنى الحقيقة وغدت الكآبة هوية».

استعاد صورته البعيدة في سيرته الذاتية: «غربة الراعي»، راجعًا إلى قرية مسالمة أُخرج منها ولم تخرج منه. أيقظت ذاكرته طفلًا كان بيته وراءه وينحدر نزولًا، ينعطف يَسْرة ويَمْنة، ويقف أمام مزبلة كأنها رابية. ما يفاجئ القارئ الجملة اللاحقة: «لو كان ذلك الطفل في ذاك الزمان يعرف معنى الرموز لأدرك أن جميع طرق الحياة تفضيو إلى مزبلة».

يصادر الاستهلال السيرة ويجعلها صفحة بيضاء، ذلك أنها قالت ما تريد من السطور الأولى، واستبقت ما تبقى تعليقًا، يسجل وقائع الحياة البسيطة ويدع «العالم الداخلي» جانبًا. كأن تأمل الوجود واستحضار الطفل القديم للإنسان يجعلان الشهرة والجوائز والمناصب والألقاب شأنًا خفيفًا عارضًا.

في صباح يومي خريفي ودود اقترح محمود درويش أن نزور د. إحسان، ما ذكر اسمه إلا وكان مصحوبًا بلقبه العلمي، وبنبرة اعتذارية عن تقصيره في زيارته. كان ذلك قبل نهاية القرن الماضي بسنوات قليلة، والشاعر يتهيأ لإعادة إصدار مجلته «الكرمل». كان في اللقاء ما يدعو إلى حديث عن الشعر والشعراء والنقد والإبداع والسلطة والثقافة… بيد أن المتوقع لم يقع. اندفع العجوز السبعيني في حديث عن مآل الفلسطينيين وخيباتهم وعثارهم الذاتي والعربي، وعن الشهداء والتضحيات والاغتيالات، وعن بؤس مضى ولن ينتهي. كان الشاعر ينظر إلى العجوز الغاضب حزينًا، قال: «في كل فلسطيني قصة، وفي كل قصة حكايات مؤسية». أجاب العجوز: «ولنا ذاكرة مثقوبة»، وطلب درويش من د. إحسان إجراء حوار شامل لمجلته التي ستعاود الصدور.

سألت إحسان في الحوار الطويل الذي قمت به بالتعاون مع الشاعر الفلسطيني الفطين مريد البرغوثي: لماذا تفضي جميع دروب الحياة إلى مزبلة؟ قال: «ما الذي يزعجك؟ في جميع البلدات والقرى مزابل، والمطلوب أن تكون على الهامش لا في المركز، فمركز القرار لا يعقل أن يكون في مزبلة»، وضحك. اعتدل في جلسته وتابع بنبرة أخرى: «قصدت الشقاء في تحصيل الصدق والوصول إلى الحقيقة، معظم القادة، كبارًا كانوا أم صغارًا يكذبون، والحقيقة تطرد إلى المنفى مثلنا وتموت».

الحقيقة دفنت في الوطن

والأرجح أن صوفيته المضمرة وإحساسه العميق بالظلم في أساس ذلك التعبير المشبع بالتشاؤم، وإيمانه بأن الحقيقة دفنت في الوطن، وأن وجودًا قتلت فيه الحقيقة أعلى مدارج الاغتراب. أراد أن يكون كما كان صبيًّا في فلسطين: «راعيًا»، وكما كان قبل المنفى وبعده: «غريبًا». وما سيرته الذاتية إلا عناق بين غربة متجددة وزمن آخر مضى. غربة فسيحة طاغية تتجاوز الزمن وتخلع عنه وقاره المحتمل.

ماذا تذكر عن غسان كنفاني؟ سؤال لا بدّ منه بسبب صداقة ربطت بين الطرفين. أجاب: أحببت فيه فلسطينية صادقة أيقظت موهبته، وشعورًا بالكرامة أمضّه عار المنفى فواجهه بطرق مختلفة، وإحساسًا مرهفًا يجعله يفهم المقصود بلا كلام. سمع ما لم أقله عن روايته «رجال في الشمس»، قبل نشرها، وعاد بعد أسبوع ليقول: والآن هل وصلت الرسالة؟ أراد أن يكون مفردًا في مجموع، وأجهده تعدّده.

اقترنت صورة إحسان عباس حين قابلته عام 1978م، بضحكة عالية كأنها صهيل. خبا الصهيل بعد اثنين وعشرين عامًا، كان في المؤتمر الأول لجائزة القاهرة للرواية العربية، يجلس على كرسي متحرك، عجوزًا أنيقًا له وقار، تسير إلى جانبه د. وداد القاضي الباحثة اللامعة في الدراسات الإسلامية. جاء من عمّان وجاءت من الولايات المتحدة، كانا يمضيان معظم الوقت معًا في زمن رحل، يبحثان ويتحاوران ويكتبان ويدرّسان في الجامعة الأميركية في بيروت، وبينهما صداقة رفيعة، صداقة المعلّم والمريد، كانت أصغر منه عمرًا بكثير. أشرفت، بمناسبة عيد ميلاده الستين، على كتاب جماعي عنوانه: «… الذي سرق النار». سألت نفسي: « ما الذي سرق الزمن السعيد، وما الحكمة من توزيع التآلف على أقاليم الاختلاف؟». كان الجواب، أو ما يشبهه، في تلك المزبلة الرابية المحتشدة بالرموز التي شهدها إحسان، صبيًّا، ولم يدرك الأسباب.

بعد أن توزّعت إقامتي على دمشق وعمّان وثالثة بلا عنوان، كنت أزور إحسان، بين حين وآخر. كان قد دخل في ثمانينياته، أنظر إلى شرفته قبل لقائه، وألتقط من المشهد الصورة الثالثة، التي أكملت صورتين سابقتين. تقع عيني على العجوز الأليف وراء قضبان العمر، مسترجعًا، ربما، صورة أخيه الأصغر، بكر، الذي رحل قبله وكان تَوْءَم الرُّوح، يسخران من النقد الأدبي العربي المعاصر. يقول العجوز: «استنفد النقاد أسماء النقد، فلم لا نضيف إليها النقد الأدبي النباتي، فالعمل الأدبي نبتة مباركة»، ويضيف أخوه: «ليست الفروق بين النبات والحيوان كثيرة، فلم لا توسّع النقد بنوع جديد، النقد الأدبي الحيواني»، ويغرقان في الضحك، هامسيْن بأسماء لا أعرفها على أية حال. سألت د. إحسان عباس في زيارة أخيرة، بوحًا طليقًا أسأل فيه ما أشاء. زمّ شفتيه كما يفعل أحيانًا وقال: «هيّا إلى الأقلام والأوراق، شريطة أن تذيع الحوار بلا رقابة». احتفظت به إلى اليوم ولم أنشره، كان العجوز الجميل على سجيته ناطقًا بما يذاع، وبما لا تجب إذاعته. أذكر دعابة لا هزال فيها، مستهلّها حكمة مريرة: «لو كان على الأرض الكثير من المثقفين لهلكت»، و«القليل من القناعة يجعل من المثقف إنسانًا»، و«القناعة تأتي من الروح وتضيق بها كتب المثقفين»!!!

علّمني إحسان عباس احترام اللغة، وفضيلة المتواضع العارف، وأخلاق الكتابة، ولم أستطع تعلّم الهزل الجاد والجدّ الهازل، المكسوَّيْنِ بالبصيرة وحقائق الحياة.

حين توفي عام 2003م، شعرت أن جمالًا من هذا العالم انطفأ، وأن بيته في فلسطين سقط عليه سواد جديد.

يوليو 1, 2020

 

(https://www.alfaisalmag.com)